أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يستضيف الدكتور محمود محيي الدين في حلقة نقاشية
  • مُتاح عدد جديد من سلسلة "ملفات المستقبل" بعنوان: (هاريس أم ترامب؟ الانتخابات الأمريكية 2024.. القضايا والمسارات المُحتملة)
  • د. أحمد سيد حسين يكتب: (ما بعد "قازان": ما الذي يحتاجه "بريكس" ليصبح قوة عالمية مؤثرة؟)
  • أ.د. ماجد عثمان يكتب: (العلاقة بين العمل الإحصائي والعمل السياسي)
  • أ. د. علي الدين هلال يكتب: (بين هاريس وترامب: القضايا الآسيوية الكبرى في انتخابات الرئاسة الأمريكية 2024)

"الروسوفونية الصاعدة":

هل ينذر تمدد الحزام الروسي بتبعية جديدة في إفريقيا؟

19 يونيو، 2024


  في الثالث من مايو 2024، عندما أكدت الولايات المتحدة وجود قوات أمن روسية في نفس القاعدة الجوية التي توجد بها قوات أمريكية في النيجر، نشرت قناة "تليغرام" الشهيرة المقربة من الكرملين رسالة ذات دلالة غير خافية تحتوي على مقطع صوتي للأغنية الشهيرة لموسيقى الروك السوفيتية في الثمانينيات "باي باي أمريكا". بعد ذلك بوقت قصير، اتفق المسؤولون الأمريكيون والمجلس العسكري الحاكم في النيجر على انسحاب تدريجي للقوات الأمريكية من النيجر، وعلى أية حال كان انسحاب القوات العسكرية الغربية من منطقة الساحل مصحوباً بتوسع النفوذ الروسي، وبالفعل حققت روسيا ميزة فعلية في السباق الجيوسياسي في منطقة الساحل، واكتسبت حلفاء مخلصين، وإن كانت دولهم تعاني من وضع الهشاشة، وتسعى موسكو إلى توسيع نطاق نفوذها عالمياً، وإيجاد أسواق تصدير جديدة والوصول إلى الموارد الطبيعية، ولعل إفريقيا تمثل فرصة مثالية لتنفيذ هذه الأهداف الروسية. فمن الناحية الواقعية شهد تقسيم إفريقيا من حيث مناطق النفوذ الخارجية دخول مصطلح "الروسوفونية" تأسياً بمجموعات الفرنكوفونية والأنجلوفونية، ويشير المصطلح الجديد إلى الدول الأكثر ميلاً إلى روسيا، وهو الاسم الذي يُطلق على المنطقة الشاسعة المعرضة للانقلابات، والتي تمتد عبر القارة من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.

وقد حظي توسع النفوذ العسكري الروسي في إفريقيا وحشد التأييد الإفريقي لتحالف "البريكس بلس" باهتمام وقلق كبيرين من القوى العالمية المتنافسة، ولاسيما الدول الغربية، ويشير الوجود المتزايد للقوات العسكرية الروسية في العديد من الدول الإفريقية إلى تحرك استراتيجي من جانب موسكو لملء الفراغ الأمني الذي خلفه النفوذ المتضائل للدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية. ويسعى هذا المقال إلى التركيز على التغلغل الروسي المتزايد في إفريقيا، مع الإشارة إلى الأهداف الاستراتيجية، ونطاق أنشطته، وتداعيات ذلك كله على الاستقرار الإقليمي والعالمي.

الأهداف الاستراتيجية:

إن توسع روسيا في إفريقيا ليس مناورة مفاجئة، بل هو جهد محسوب لإعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي لصالحها في إطار التحالف مع دول الجنوب العالمي من أجل وضع قواعد نظام عالمي جديد أكثر عدالة وتوازناً، وربما يتمثل الهدف الأساسي لروسيا في استغلال الثغرات في السياسة الأمنية التي خلفتها الدول الغربية؛ بهدف تغيير ميزان القوى تدريجياً، وخلافاً للنهج الغربي، الذي يؤكد غالباً الشراكات طويلة الأمد في ظل مشروطية سياسية تنطوي على مبادئ النيوليبرالية، فإن الاستراتيجية الروسية تركز على المكاسب الفورية والمزايا التكتيكية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وإعلاء مبدأ السيادة الوطنية للشركاء، ويسمح هذا النهج لروسيا بتثبيت وجودها ونفوذها بسرعة، وإنشاء حزام من التعاون العسكري يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.

من جهة أخرى فإن روسيا، في تنافسها مع العالم الليبرالي على تأسيس الخطاب المهيمن -إلى جانب الوسائل العسكرية للقوة- تستخدم القوة الناعمة، وتستفيد من جاذبية القيم غير الليبرالية لتشكيل تحالفات فعالة في السياسة الخارجية، وتقويض مصداقية المؤسسات الدولية، وإعادة تشكيل النظام العالمي، وهنا تحدد الروايات الاستراتيجية الروسية الأهداف السياسية للحكومة الروسية، وتقدم روسيا رؤيتها لنظام عالمي جديد متعدد الأقطاب -عالم مقسم بين القوى الكبرى- إذ تمتلك موسكو سلطة تحديد أنماط التعاون والشراكة مع عالم الجنوب ومنه إفريقيا. 

وبعيداً عن الجوانب العسكرية وأمن الطاقة، تسعى موسكو أن يكون نموذجها جذاباً للدول الإفريقية، ويسهم في التنمية الاقتصادية لموسكو نفسها، وعليه تسعى روسيا إلى تطوير الفرص الثنائية للشراكة التكنولوجية التي تُعد محركاً للتنمية في سياق الثورة الصناعية الرابعة، وحافزاً لخلق تحالفات استراتيجية جديدة، وفي ظل الخبرات السابقة منذ العهد السوفيتي، يمكن أن ينمو الطلب على التقنيات الروسية في إفريقيا بشكل كبير؛ لأن روسيا لديها كفاءات عالية في تلك المجالات الأكثر طلباً اليوم في القارة الإفريقية. 

إن نقل التقنيات الروسية، فضلاً عن التعاون في المجال العلمي، لا يفيد روسيا فقط من حيث الصورة، بل يقدم موسكو كقوة تسهم في التنمية المتقدمة لإفريقيا وتعزيز سيادتها الاقتصادية، إنه يسمح لروسيا بتأسيس "روسوفونية" جديدة من خلال حل مشكلة التغلب على التخلف التكنولوجي وتدريب الموظفين المؤهلين الذين سيتقنون ويروجون للحلول التكنولوجية الروسية على وجه التحديد، بالإضافة إلى ذلك، تحظى روسيا "بأرضية اختبار" واسعة لمعالجة وتحسين تقنياتها، التي يطلبها الشباب الأفارقة الذين يتزايد عددهم بسرعة، وسوق ضخمة للسلع والخدمات الروسية عالية التقنية، والتي تُعد ضرورية للغاية للكثيرين من الأفارقة، وعلى أية حال فإن الكرملين عازم على توسيع وجوده في إفريقيا، إذ إن الموارد الطبيعية للقارة، وأصواتها الـ54 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقربها من أوروبا، من شأنها أن توفر لروسيا حليفاً مهماً وموقعاً استراتيجياً يمكن من خلاله تطويق خصمها الأوروبي.

الحزام الروسي الجديد:

تتعدد الأنشطة العسكرية الروسية في إفريقيا ويتسع نطاقها بشكل تدريجي. ففي بوركينا فاسو ومالي، شاركت القوات الروسية بنشاط؛ إذ قدمت المساعدة العسكرية وأقامت علاقات تعاون، وفي النيجر، هناك علامات على التعاون العسكري الذي يزداد رسوخاً، وتشير الاجتماعات السياسية رفيعة المستوى في تشاد إلى تعميق العلاقة مع زيارة الرئيس ديبي لموسكو مطلع 2024، وتمتلك روسيا وجوداً أمنياً قد يصل إلى حد بناء قاعدة للفيلق الإفريقي في جمهورية إفريقيا الوسطى. كما يعود تاريخ التدخل الروسي في ليبيا إلى عام 2016، إذ أدت دوراً مهماً في الصراع الدائر. وعلى أية حال اتجهت البلدان عبر منطقة الساحل، وهي المنطقة الممتدة من السنغال إلى البحر الأحمر، نحو روسيا للحصول على المساعدة الأمنية في السنوات الأخيرة في مواجهة عدم الاستقرار الإقليمي المتزايد. فعلى سبيل المثال، دعمت قوات الفيلق الإفريقي -فاغنر سابقاً- القوات المسلحة في بوركينا فاسو ومالي في حربهما ضد الجماعات المتمردة. 

واليوم تعمل روسيا على مضاعفة تركيزها على المنطقة من خلال إحكام قبضتها على العديد من دول الساحل والبحث عن شركاء جدد في مناطق أبعد، وهي استراتيجية قد تضعها في مواجهة قوى عالمية أخرى، وقد تكون ساحة المعركة التالية هي الدول الساحلية في غرب إفريقيا، ويلاحظ أن المصالح الاستراتيجية لروسيا في ساحل غرب إفريقيا تركز على تأمين اتفاقيات عسكرية ودبلوماسية واقتصادية مع زعماء الدول في هذه المنطقة مقابل الوصول الاستراتيجي إلى المحيط الأطلسي، ويشبه هذا النهج الوجود العسكري للولايات المتحدة في جيبوتي؛ إذ يمنح معسكر ليمونيه في جيبوتي، الولايات المتحدة سيطرة استراتيجية على مناطق المحيط الهندي، وقناة السويس.

وفي ظل التجاذبات الجيوستراتيجية الهشة في الساحل الإفريقي بمعناه الواسع، كشف مساعد القائد العام للجيش السوداني ياسر العطا، في 25 مايو 2024، عن موافقة حكومته على اتفاق وقعه النظام السابق عام 2019؛ لإنشاء مركز لوجستي للبحرية الروسية في ميناء بورتسودان على البحر الأحمر، وبالفعل توجه وفد سوداني برئاسة مالك عقار إلى موسكو؛ لبحث التعاون العسكري والاقتصادي بما في ذلك مشروعات التعدين والزراعة، ومن المنتظر أن يوقع على الاتفاقية النهائية للقاعدة البحرية رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان. ويوضح هذا النطاق الواسع من الأنشطة النهج الشامل الذي تتبعه روسيا في تأمين مصالحها في جميع أنحاء القارة، ولاسيما منطقة الحزام الإفريقي. فمن خلال تقديم الدعم العسكري وإقامة التحالفات مع الدول الإفريقية، تضع روسيا نفسها فاعلاً رئيسياً في ديناميكيات الأمن الإقليمي، وهذا لا يعزز نفوذها الجيوسياسي فحسب، بل يمكّنها أيضاً من موازنة النفوذ الغربي في هذه الدول.

عواقب محتملة: 

يلاحظ المتابع للشؤون الإفريقية وجود حركة شعبوية مناهضة للغرب ذات طبيعة عضوية -حتى لو غذتها جزئياً الروايات الصينية والروسية واستغلتها المجالس العسكرية الحاكمة في الدول الإفريقية- وتركز هذه الحركة على مظالم طويلة الأمد مع القوى الاستعمارية الغربية السابقة، وأيضاً على الحرمان من الحقوق والتهميش الاقتصادي والسياسي، وتُفقد الدول الغربية والولايات المتحدة نفوذها في إفريقيا، ويرجع ذلك جزئياً إلى الفشل في التصدي للإرهاب على مدى عقدين من الزمان، ولعل السؤال الذي يطرحه كثير من الأفارقة هو لماذا يوجد الغرب أو الفرنسيون في المنطقة؛ إذا كنا لا نزال نعاني من نفس المشكلات؟ بل إنها قد تفاقمت بالفعل! 

لقد اعتمدت القوى الغربية إلى حد كبير على مقاربات العسكرة والترتيبات الأمنية مع الدول الإفريقية في منطقة الساحل، وفشلت في تركيز الاهتمام على نهج التنمية المستدامة وهو ما خلق "فراغاً" في السلطة في جميع أنحاء القارة.

وعليه فإن النفوذ الروسي المتنامي في إفريقيا يحمل في طياته عواقب كبيرة على الاستقرار الإقليمي والعالمي.  بالنسبة للدول الإفريقية، يمكن أن يعني التدخل الروسي المتزايد الوصول إلى موارد عسكرية جديدة والتدريب؛ مما قد يعزز قدراتها الأمنية الداخلية، ومع ذلك، فإن هذا يثير أيضاً مخاوف بشأن التأثير طويل المدى في الحكم والسيادة وديناميكيات القوة الإقليمية. فعلى سبيل المثال، يدل نشر الفيلق الإفريقي، وهو قوة عسكرية تسيطر عليها الدولة، على تحول استراتيجي في النهج الذي تتبناه روسيا في التعامل مع النفوذ العسكري في إفريقيا، وعلى عكس شركة فاغنر العسكرية الخاصة، يخضع الفيلق الإفريقي مباشرة للدولة الروسية؛ مما يضمن قدراً أكبر من السيطرة والتنسيق، وكان أول انتشار مؤكد له في بوركينا فاسو؛ حيث يدعم الحكومة العسكرية لإبراهيم تراوري، ويعتقد أن قوات هذا الفيلق حلت محل فاغنر في ليبيا، ومن المتوقع إجراء عمليات نشر مستقبلية في مالي وجمهورية إفريقيا الوسطى والنيجر، وربما يطرح ذلك تساؤلات بشأن الحوكمة وقضايا المساءلة والنفوذ الاقتصادي؛ إذ تكمل موسكو وجودها العسكري بأدوات اقتصادية، بما في ذلك مبيعات الطاقة والأسلحة، لتعميق نفوذها في القارة.  

 وبالنسبة للغرب فإن الوجود الروسي المتنامي يمثل تحدياً مباشراً لمناطق نفوذه التقليدية. فالتمركز الاستراتيجي للقوات الروسية على طول الممرات الجغرافية الرئيسية من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر؛ يهدد بتقويض الجهود الغربية للحفاظ على الاستقرار وتعزيز الحكم الديمقراطي في إفريقيا، وقد يؤدي هذا التحول إلى زيادة المنافسة والتوتر بين القوى العالمية؛ إذ تتنافس على النفوذ على موارد القارة ومواقعها الاستراتيجية، ومع ذلك، تواجه المنطقة تحديات كبيرة من الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة، وتنظيم الدولة الإسلامية، والتي اخترقت الدول الساحلية مثل: بنين وغانا وتوغو. فعلى سبيل المثال، في بنين، تضاعفت الهجمات الجهادية ضد المدنيين ثلاث مرات تقريباً في عام 2023، من أكثر من 30 حادثاً إلى ما يقرب من 80 حادثاً، ورداً على ذلك، تحاول الولايات المتحدة إنشاء قواعد عسكرية للطائرات من دون طيار على طول ساحل غرب إفريقيا؛ للحد من انتشار هذه الجماعات المتطرفة، ومع ذلك، أكد الجنرال مايكل لانجلي أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في 16 مارس، أن الحرب الإعلامية الروسية أدت إلى تقليص نفوذ الولايات المتحدة في إفريقيا بشكل كبير في السنوات الأخيرة.

علاوة على ذلك، فإن النهج الروسي، الذي يعطي الأولوية للمزايا التكتيكية المباشرة، قد يسهم في دورة من التبعية والصراع داخل الدول الإفريقية، وقد يؤدي ذلك إلى تفاقم القضايا القائمة مثل: عدم الاستقرار السياسي، والصعوبات الاقتصادية، والاضطرابات الاجتماعية؛ مما يجعل تحقيق التنمية المستدامة والسلام أكثر صعوبة بالنسبة لهذه البلدان. ولا أدل على ذلك من التقارب الروسي الحاصل مع مجلس السيادة في السودان؛ وهو ما يدفع بالبلاد إلى خطر التقسيم وتكرار السيناريو السوري مع حصول روسيا على قاعدة عسكرية تطل على البحر الأحمر، ولعل ذلك يؤكد للأفارقة أن العلاقات الدولية تحكمها لغة المصالح، وأن مهمة إصلاح البيت تقع على قاطنيه كما أكد الاقتصادي النيجيري الأشهر كلود أيك؛ أي أن المشكلات الإفريقية تتطلب حلولاً إفريقية.

في الختام، يمثل النفوذ العسكري الروسي واسع النطاق في إفريقيا تحولاً كبيراً في المشهد الجيوسياسي للقارة، ومن خلال التركيز الاستراتيجي على ملء الفراغ الأمني الذي خلفه الغرب، تعمل روسيا تدريجياً على إنشاء حزام من الوجود العسكري يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، ويطرح هذا الانتقال من التحالفات الغربية إلى التحالفات الشرقية في منطقة الساحل تساؤلات حول مستقبل الأمن الإقليمي وإدارة الموارد الوطنية. ويظل من غير المؤكد ما إذا كان هذا التحول سيخفف من عنف الجماعات الجهادية المتطرفة الذي أدى إلى زعزعة استقرار المنطقة لسنوات، وبينما يتراجع الغرب على ما يبدو، ويتبنى دوراً أكثر سلبية، فإنه يراقب منطقة الساحل الإفريقي وهي تمضي قدماً في هذا الواقع الجيوسياسي الجديد؛ مما قد يؤدي إلى فترة من الاضطرابات المستمرة وإعادة الصياغة الجيوستراتيجية لمنطقة الساحل الإفريقي الكبير.